فصل: المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك: مملكة توران:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك: مملكة توران:

وهي مملكة الخاقانية قد تقدم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية نقلاً عن المقر الشهابي بن فضل الله في كتابه التعريف: أن هذه المملكة من نهر بلخ إلى مطلع الشمس على سمت الوسط؛ فما أخذ عنها جنوباً كان بلاد السند، ثم الهند؛ وما أخذ عنها شمالاً كان بلاد الخفجاج وهي طائفة القبجاق وبلاد الصقلب، والجهاركس، والروس، والماجار، وما جاورهم من طوائف الأمم المختلفة سكان الشمال. فيدخل في هذه المملكة ممالك كثيرة وبلاد واسعة، وأعمال شاسعة، وأمم مختلفة لا تكاد تحصى؛ تشتمل على بلاد غزنة، والباميان، والغور، وخوارزم، ودشت القبجاق؛ وما وراء النهر: نحو بخارا، وسمرقند، والصغد، والخوجند. وبلاد تركستان، وأشروسنة، وفرغانة. وبلاد صاغون، وطراز، وصريوم. وبلاد الخطا نحو بشمالق والمالق إلى قراقوم، وما وراء ذلك من بلاد الصين وصين الصين؛ فإنها كانت في القديم بيد فراسياب، بن شنك، بن رستم، ابن ترك، بن كومر، بن يافث، بن نوح عليه السلام. وهو ملك الترك في زمان موسى عليه السلام، على خلاف في نسبه سبق هناك. وأنها الآن بيد بني جنكزخان من ولد طوجي خان ابن جنكزخان.
ثم هذه المملكة بيد ثلاثة ملوك عظام من بني جنكزخان.
الأول- صاحب خوارزم ودشت القبجاق. وتعرف في القديم بمملكة صاحب السرير، ثم عرفت في الدولة الجنكزخانية ببيت بركة، نسبة إلى بركة بن طوجي خان بن جنكزخان. وقاعدتها مدينة السراي وهي مدينة على نهر إتل، بناها بركة بن طوجي خان المقدم ذكره. وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على المسالك والممالك.
ثم فيها جملتان:
الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها:
قال في التعريف: وكان صاحبها في الأيام الناصرية يعني محمد بن قلاوون أزبك خان. وقد خطب إليه السلطان فزوجه بنتاً تقرباً إليه. قال: وما زال بين ملوك هذه المملكة وبين ملوكنا قديم اتحاد، وصدق وداد؛ من أول أيام الظاهر بيبرس وإلى آخر وقت. ثم قال: والملك الآن فيهم في أولاد أزبك: إما تني بك، وإما جاني بك، وأظنها في تني بك. وقد تقدم أن الملك بعد أزبك كان جاني بك لا تني بك، على خلاف ما ظنه في التعريف.
ورسم المكاتبة إلى قانها الجامع لحدودها قال في التعريف: والأغلب أن يكتب إليه بالمغلي. وذلك مما كان يتولاه أيتمش المحمدي، وطاير بغا الناصري، وإرغدلق الترجمان. ثم صار يتولاه قوصون الساقي. ورأيت في بعض الدساتير نقلاً عن القاضي علاء الدين بن فضل أنه كتب له مسودة على أن تكتب له بالعربي ثم بطل وكتب بالمغلي. قال: فإن كتب له بالعربي، فرسم المكاتبة إليه ما يكتب إلى صاحب إيران.
وقد تقدم نقلاً عن التعريف: أنه يكتب في قطع البغدادي الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة المكتتبة بالذهب المزمك- بألقاب سلطاننا على عادة الطغراوات؛ ثم تكمل الخطبة، ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي: الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظمية، الشاهنشاهية، الأوحدية، الأخوية، القانية. ولا يخلط فيها الملكية لهوانها عليهم. ثم يدعى له بالأدعية المعظمة المفخمة الملوكية: من إعزاز السلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ورفع الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وما يجري هذا المجرى. ثم يؤتى بذكر دوام الوداد والشوق؛ ثم يذكر القصد؛ ثم يختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم ويوصف التطلع إليها والتهافت عليها.
قال في التثقيف: وكان يكتب إلى أزبك في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون في ورق عرض البغدادي الكامل. وبعد البسملة الشريفة سطران هكذا: بقوة الله تعالى وميامن الملة المحمدية ثم يخلى موضع بيت العلامة؛ ثم تكتب الألقاب السلطانية، وهي: السطلان الأعظم وبقية الألقاب الشريفة على العادة حسب ما يأتي ذكره. ثم بعد الحمدلة وخطبة مختصرة جداً: فقد صدرت هذه المكاتبة إلى الحضرة الشريفة العالية، حضرة السلطان الكبير، الأخ، الشفيق، الالم، العادل، القان الأعظم، الأوحد، شهنشاه، الملك، أزبك إل خان؛ سلطان الإسلام والمسلمين، أوحد الملوك والسلاطين، عمدة الملك، سلطان المغل والقبجاق والترك، جمال ملوك الزمان، ركن بيت جنكزخان، معز طغاج، صاحب التخت والتاج، عضد المتقين، ذخر المؤمنين. والدعاء بما يناسبه. فإننا نخصه بالسلام واستعلام أخباره ونفاوض علمه الشريف. قال: والكتابة بالذهب والأسود حسب ما تقدم في المكاتبة إلى أبي سعيد، وكذا العنوان. ثم قال: ولم يكاتب أحد بعده بنظير ذلك. وكان قد ورد على الأبواب الشريفة في سنة ست وخمسين وسبعمائة كتاب جاني بك ابن أزبك، وكتب إليه الجواب الشريف بنظير الكتاب الوارد من عنده، وهو في ورق دون البغدادي بثلاث أصابع مطبوقة، والافتتاح بخطبة مناسبة مكتتبة بالذهب جميعها، ثم أما بعد بالأسود خلا ما تقدم ذكره في مكاتبة أبي سعيد. والعنوان بالذهب. والذي كتب إليه من الألقاب: الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظمية، العالمية، العادلية، الأكملية، القانية، الأخوية، العزيزية، الملكية، الشرفية زيدت عظمتها. قال: ولما كان في العشر الآخر من ربيع الأول سنة ست وسبعين وسبعمائة، رسم لي بالكتابة إلى القان محمد ببلاد أزبك، وهوالقائم مقام أزبك على ما قيل، على يد رسل الأبواب الشريفة، بالسلام والمودة واستعلام الأخبار ونحو ذلك فكتبت إليه في عرض البغدادي الكامل حسب ما رسم به، بخطبة مختصرة بالذهب، والبقية بالأسود والذهب على ما تقدم ذكره في مكاتبة القان أبي سعيد. وكتب له من الألقاب بعد المراجعة: المقام العالي، السلطاني، الكبيري، الملكي، الأكرمي، الأعدلي، الشمسي، شمس الدنيا والدين، مؤيد الغزاة والمجاهدين، قاتل الكفرة والمشركين، ولي أمير المؤمنين خلدت سلطنته. والعنوان بالذهب بغير تعريف. وعلم له في بيت العلامة الشريفة بالمغرة العراقية المشتاق شعبان.
وهذه نسخة ما كتبت إليه بعد البسملة الشريفة.
الحمد لله الذي وهبنا ملكاً دانت له ملوك الأقطار؛ وازدانت الأسرة والتيجان بما له من عظمة وفخار؛ وأذعنت العظماء لعزة سلطانه الذي شمل الأولياء وقصم الأعداء ببره الجابر وقهره الجبار؛ وقاد الجيوش إلى أن فتح الله على يديه الشريفتين معاقل الكفار، بأمره الجاري على الرقاب وعسكره الجرار؛ ومنحه خدمة الحرمين الشريفين اللذين لم يزل لهما منه الانتصاب وبهما له الانتصار. نحمده على أن جعل مملكتنا الشريفة هي محل الإمامة العباسية فلا جحود ولا إنكار، ومرتبتنا المنيفة بما عهد به إلينا أمير المؤمنين إلى قيام الساعة علية المقدار؛ ونشكره على أن أورثنا ملك أسلافنا الشهداء فأقر العيون وسر الأسرار، وجعل السلطنة المعظمة في بيتنا المكرم تنتقل تنقل البدور في بروجها إلا أنها آمنة من السرار. ونشد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم نزل قائمين بنصرتها، قانتين بالإخلاص في كلمتها. لنعد بذلك من الأبرار، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المؤيد بملائكته، المخصوص بنبوته ورسالته، الذي عظم الله قدره على سائر الرسل كما جاءت النصوص والأخبار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل الدار، صلاة دائمة باقية بدوام الليل والنهار، وسلم.
أما بعد، فإن قلوب الأولياء وإن تناءت الأجسام متعارفة بالائتلاف، متقاربة على بعد الديار حيث لا تناكر بينها ولا اختلاف، لا سيما ملوك الإسلام، الذين هم متحدون بالمصافة والاستسلام؛ فإن سرائرهم لم تزل متدانية، وضمائرهم متكافية؛ هذا والمحبة لبيته الكريم قديمة، والمودة بين الأسلاف لم تزل مستديمة؛ فلم نكن ورثنا ذلك عن كلالة، بل تبعنا فيه سبيل السلف الصالح على أحسن حالة: لما هو محكم من عقود الاتحاد والولاء، حيث المحبة في الآباء صلة في الأبناء؛ وكان لنا مدة مديدة وقد تأخرت رسلنا عن حضرته ولم تصدر من جهتنا الشريفة، كذلك ولا وردت رسل من جهته؛ ولم يشغلنا عن ذلك إلا مواقعة الفرنج المخذولين أعداء الدين، ومقارعتهم في سائر السواحل بشدة اليأس والتمكين؛ إلى أن أمكن الله عز وجل من نواصيهم وصياصيهم بنصر من عنده، كما قال تعالى: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين.
و الآن فقد صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي السلطاني- وبقية الألقاب والنعوت إلى آخرها حسب ما تقدم ذكره- تخص مقامه بسلام ارق من النسيم، وألطف مزاجاً من التسنيم؛ وثناء قد أزرى نشره بالعبير، وسرى بشره فغدت تتهلل به الأسارير. وتبدي لعلم المقام العالي زيدت معدلته أنه لما يبلغنا من عدل الحضرة الشريفة، وإنصافة للرعايا وتأمين سبل الجور المخيفة؛ وسلوكه سنن الإحسان، وتأكد عقود المحبة على عادة من سلف في سالف الزمان؛ قصدنا مفاتحته بهذه المكاتبة، وأردنا بدائته بهذه المخاطبة؛ ليعلم ما نحن عليه من صحيح الوداد، وأكيد الاتحاد، وجميل الاعتقاد، وحسن الموالاة الخالصة من شوائب الانتقاد؛ وجهزنا بها رسلنا فلان وفلان ومن معهما نستدعي وده، ونستدني ولاءه الذي أحكم عقده، تأكد المصافاة بين هاتين الدولتين، والمخالصة من كلتا الجهتين، والموالاة بين المملكتين؛ ويأمر المقام العالي لا زال عالياً بتردد التجار من تلكم الديار، والمواصلة بالأخبار على حسب الاختيار؛ ومتابعة الرسل والقصاد، على أجمل وجه معتاد.
وقد وجهنا إلى المقام العالي أعلى الله شأنه صحبة رسلنا المذكورين من الأقمشة السكندري وغيرها على سبيل الهدية، والمواهب السنية، ما تضمنته الورقة المجهزة طيها؛ فليأمر المقام العالي دامت معدلته بتسليم ذلك؛ ويتيقن وفور المحبة من سلطاننا المالك، وتأكد أسباب المودة على أجمل المسالك؛ والله تعالى يجمل ببقاء سلطانه ملك الممالك، ويديم عدله المبسوط على الأولياء ويرمي ببأسه الأعداء في مهاوي المهالك، ويخلد ملكه الذي تفتخر بالملك من مقامه العالي السرر والأرائك؛ بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أن صاحب التثقيف قد ذكر أن المكتوب إليه بهذه المكاتبة هو القائم مقام أزبك، وأن اسمه محمد، وأن المكاتبة إليه كانت في سنة ست وسبعين وسبعمائة. وقد تقدم ذكر من ولي هذه المملكة بعد أزبك ولم يكن فيهم من اسمه محمد. وقد كان القائم بهذه المملكة في سنة ست وسبعين المذكورة اسمه أرص وهو الذي انتزع المملكة من أيبك خان المقدم ذكره؛ وأصله من خوارزم على ما ذكره في الكلام على المسالك والممالك، فيحتمل أن يكون اسمه محمد وأرص لقب عليه، كما كان خدابندا والد أبي سعيد من ملوك إيران، اسمه محمد، ولقبه خدابندا. والأمر في ذلك راجع إلى النقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: وقد كتب في الدولة الناصرية فرج بن الظاهر برقوق، للقان القائم بها في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في قطع البغدادي الكامل من الورق المصري المعمول على هيئة البغدادي، ابتدئ فيه بعد خمسة أوصال بياض بالبسملة في أعلى الوصل السادس، ببياض من جانبيها عرض إصبعين من كل جهة، والسطر الثاني على سمته في آخر الوصل، بخلو بياض من الجانبين بقدر السطر الأول، والطغراة بينهما بألقاب سلطاننا على العادة، مكتوبة بالذهب بالقلم المحقق مزمك بالسواد، بأعلى الطغراة قدر عرض ثلاثة أصابع بياضاً، ومثل ذلك من أسفلها، وباقي السطور بهامش من الجانب الأيمن على العادة، وبين كل سطرين قدر نصف ذراع القماش القاهري، والأسماء المعظمة: من اسم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، واسم سلطاننا والسلطان المكتوب إليه، والضمير العائد على واحد منهما بالذهب المزمك كما تقدم تقريره في الكلام على مكاتبة صاحب إيران في القديم.
وهذه نسخة مما أنشأته، كتبت بإشارة المقر العالي الفتحي: صاحب ديوان الإنشاء الشريف وهي: الحمد لله مؤيد سلطاننا الناصر بعزيز نصره، ورافع قدر مقامنا الشريف بإعلاء مناره وإعظام ذكره، ومشيد أركان ملكنا الشامخ بإسعاد جده العالي والله غالب على أمره. نحمده على ما جنب من مواقع الحرج، وجعل أمور رعايانا بمعدلتنا الشريفة بعد الضيق إلى فرج؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثها عظماء الملوك كابراً عن كابر، ويتناقلها منهم الخلف بعد السلف فيسندها الناصر عن الظاهر؛ ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل نبي جمع بعموم دعوته مفترق الأمم، ووفق بحنيفي ملته بين أقيال العرب وأساورة العجم؛ صلى الله عليه وعلى آله صحبه الذين آخى بينهم فسن المؤاخاة، ونقى من نغل الضغائن صدورهم ففازوا بأكمل المصافاة وأتم الموافاة؛ صلاة تسير بفضلها الركائب، وتترنم بذكرها الحداة فتعم نفحاتها المشارق والمغارب، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الأرواح إذا تمازحت تناجت بالضمائر، والقلوب إذا تآلفت اغتنت بشواهد الحال عن إبراز ما في السرائر، والأجساد إذا تباعدت تعللت بالمكاتبات في بلوغ الأوطار، والديار إذا تناءت اكتفت بالمراسلة عن تقارب الدار، والمودة إذا صفت لا يؤثر فيها البعاد، والمحبة إذا صدقت لا تزال كل يوم في ازدياد؛ والأذن تعشق قبل العين أحياناً، والوصف يحرك من الشوق أغصاناً وأفناناً.
هذا وإن أحق ما اتخذته الملوك ذريعة لدواعي الابتهاج، وأهم ما اهتم به متخت بتخت أو متوج بتاج؛ إحياء مذاهب الملوك السالفة في الواد، واقتفاء آثارهم الجميلة في موارد المكاتبات على التنائي والبعاد؛ ومن ثم صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي، السلطاني، الكبيري، الأخوي، الفلاني، ركن الملة الإسلامية، عماد المملكة الجنكزخانية، ذخيرة الدين، خليل أمير المؤمنين- زيدت عظمته، ودامت معدلته- تخصه بسلام تهب به الجنوب فتؤثر به في الشمال القبول، وتخص به إلى السراي سراها ليكون لها ببيت بركة أشرف قدم وأكرم وصول؛ وتمد على خوارزم والدشت فضل رواقه المديد؛ وتنشر على مملكة السرير لواءه فيعم ما بين جيحون وطرنا ويشمل ما بين الخطا والباب الحديد. وتناجي علمه الشريف بأنه غير خاف عن شريف مقامه أن من سلف من ملوك مملكتنا العالية الذرى، والمملكة القانية المرفوعة الذكر رفع نار القرى؛ لم تزل ملوكهم مجتمعة مع تنائي الديار، مؤتلفة على المحبة وإن شط المزار، محافظين على تتابع الرسل وإن حال دونهم الصفاح؛ مثابرين على توارد الكتب ولو على أجنحة الطير ومتون الرياح؛ وقد مضت مدة مديدة لم يقدم علينا من المقام الشريف- عظم الله تعالى شأنه- رسول يطفئ لواعج الاشتياق، ولا ورد عنه كتاب يتعلل المحب بتلقيه عن حقيقة التلاق؛ بل سد باب المكاتبة حتى كأن المكاتبة لم تخلق؛ وأغلق باب المراسلة وإن كان باب المحبة- بحمد الله- لم يغلق؛ فطمح بخاطرنا الشريف طامح الشوق المتزايد، وحملنا موصول المحبة المستغني بمواصلته عن الصلة والعائد، أن نفاتح المقام العالي دامت معدلته بهذه المفاوضة: لتجدد من العهود القديمة رسومها، وتطلع من مشارق المخاطبة نجومها؛ وتنسخ آية الهجران وتمحوها، وتصقل مرآة المصافاة وتجلوها، وتستجلب الأنس وإن صح الميثاق، وتذكر الخواطر الوداد وإن ثبتت منه الأصول ورسخت الأعراق، وتنوب عن نظرنا الشريف في مشاهدة محياه الكريم، ومصافحة كفه التي حديث ودها قديم، وتستطلع أخباره، وتستعرض على تعاقب الأزمان أوطاره.
وقد اخترنا لتبليغ رسالتها، وأداء أمانتها، المجلس السامي المقرب الأمين خواجا فلان أعزه الله تعالى، وحملناه من السلام ما يهتدي بضوئه الساري، ويفوق بعرفه العنبر الشحري والمسك الداري: ليحكم بحسن السفارة من المخالصة مبانيها، ويعقد منها بمتابعة الرسل والقصاد أواخيها؛ وجهزنا صحبته كذا وكذا على سبيل الهدية المندوب بذلها وقبولها، والحاكم بصحة عقد المحبة كثيرها وقليلها؛ والله تعالى يزيد في ارتفاع قدره الخطير، ويحوط به من ملكه الجنكزخاني ما يحقق أنه صاحب التاج والسرير.
الجملة الثالثة في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الأتباع والحكام وهم على أصناف:
الصنف الأول: كفال المملكة:
قد تقدم أن ترتيب هذه المملكة في أمراء الألوس والوزير نحو مملكة إيران، وإن لم يكن لأمير الألوس ولوزير بهذه المملكة من نفاذ الأمر نظير ما هنالك. ومقتضى ذلك أن يكونا منحطين في الرتبة عن أمراء الألوس بإيران والوزير بها؛ وهذه الرسوم التي وقعت في مكاتباتهم على ما أورده في التثقيف:.
وأمراء الألوس أربعة، أكبرهم يسمى بكلاري بك بمعنى أمير الأمراء كما تقدم في مملكة إيران. فقد ذكر في التثقيف: أنه كان منهم في سنة اثنتين وثمانين سبعمائة قطلوبغا إيناق، وأنه كتب إليه في عاشر جمادى الآخرة منها ما صورته: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميري، الكبيري، العالمي، العادلي، المؤدي، العوني، الزعيمي، الممهدي، المشيدي، الظهير، النويني، السيفي؛ عز الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدم العساكر، كهف الملة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين. ثم الدعاء والعلامة أخوه وتعريفه: قطلوبغا إيناق نائب القان جاني بك.
ثم ذكر أن الأمر كان عند القان محمد بمثابة الأمير يلبغا العمري، يعني الخاصكي بالأبواب السلطانية بالديار المصرية، وأنه استحدثت المكاتبة إليه في سنة ثالث وسبعين وسبعمائة، وأنه كتب إليه في قطع الثلث ما صورته:
أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميري، الكبيري، العالمي، المجاهدي، المؤيدي، الذهري، النصيري، الهمامي، المقدمي، النويني، السيفي؛ عز الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدم العساكر، ذخر الدولة، عضد الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين. والدعاء المناسب. والعلامة والده. وتعريفه: مماي. وفي هذا نظر: لأنه إذا كان بمثابة ما كان عليه يلبغا بالديار المصرية، فمقتضاه أن يكون أكبر أمرائه. وإذا كان كذلك، فكيف يكتب إليه دون أمراء الألوس؟ فقد تقدم أنه يكتب إليهم: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
الوزير بهذه المملكة. قد ذكر في التثقيف: أن الوزير بها كان اسمه محموداً، ولقبه حسام الدين، وكان يعرف بمحمود الديوان. وذكر أن رسم المكاتبة إليه في قطع الثلث ما صورته: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الآمري، الكبيري، الذخري، الأوحدي، الأكملي، المتصرفي، العوني، الوزيري، الحسامي، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء والوزراء في العالمين؛ جمال المتصرفين، أوحد الأولياء المقربين، ذخر الدولة، مشير الملوك والسلاطين. ثم الدعاء والعلامة والده. وتعريفه: خواجاً محمود وزير المملكة القانية.
قلت: وقد علمت أن المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بهذه المملكة دون المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بمملكة إيران، فقد تقدم أن المكاتبة إلى بكلاري بك أكبر أمراء الألوس بمملكة إيران: أعز الله تعالى نصر المقر الكريم. وإلى الثلاثة الذين دونه: أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم، ثم استقر أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم. وأن المكاتبة إلى الوزير: ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي. والمعنى في ذلك ما تقدم من أنه ليس لأمراء الألوس والوزير بهذه المملكة من التصرف ما لأمراء الألوس والوزير من التصرف بتلك المملكة.
قجا علي بك بهذه المملكة. قال في التثقيف: وهو ممن استحدثت المكاتبة إليه في سنة خمس وستين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في التثقيف: الاسم والسامي بالياء وتعريفه بالاسم.
الصنف الثاني: الحكام بالبلاد بهذه المملكة:
وها أنا أذكر من ذكر المكاتبة إليهم منهم في التثقيف:
الحاكم بالقرم: وهو إقليم شمالي بحر نيطش. وقاعدته مدينة صلغات، وهي مدينة على نصف يوم من البحر، وقد غلب عليها اسم القرم. وقد ذكر في التثقيف: أن الحاكم بها في سنة خمسين وسبعمائة كان اسمه زين الدين رمضان؛ ثم استقر بعده علي بك ابن عيسى بن تلكتمر. وقد رأيت في بعض التواريخ أن الحاكم بها في حدود ست وسبعين وسبعمائة كان ماماي المقدم ذكره. وقد في التثقيف: أن رسم المكاتبة إلى الحاكم بها في قطع العادة، والعلامة أخوه وصدرت والعالي. والذي رأيته في دستور يعزى في الأصل للمقر العلائي بن فضل الله أنه يكتب إليه في قطع الثلث وأن المكاتبة إليه: السامي بالياء. وتعريفه: الحاكم بالقرم.
الحاكم بأوزاق: وهي مدينة على بحر مانيطش المقدم ذكره في الكلام على المسالك والممالك. وهو المعروف الآن ببحر الأزق؛ وهي عن القرم في جهة الجنوب والشرق، وبينهما نحو خمس عشرة مرحلة. قال في التثقيف: ورسم المكاتبة إلى الحاكم بها مثل الحاكم بالقرم على السواء. والذي رأيته في الدستور المقدم ذكره أنه في قطع الثلث السامي بالياء كما في الحاكم بالقرم.
الثاني من ملوك توران من بني جنكزخان: صاحب ما وراء النهر:
وقاعدة ملكه في القديم بخارا، والآن سمرقند. ومن مضافاتها غزنة وما والاها من متاخم الهند. وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المسالك والممالك. وقد ذكر في التعريف: أن آخر ما استقرت لترماشيرين، وكان حسن الإسلام عادل السيرة، طاهر الذيل، مؤثراً للخير، محباً لأهله، مكرماً لمن يرد من العلماء والصلحاء، وطوائف الفقهاء والفقراء.
قال: وكتب إليه رسم المكاتبة إلى صاحب إيران. وقد تقدم في الكلام على المكاتبة إلى صاحب إيران نقلاً عن التعريف: أنه يكتب إليه في قطع البغدادي الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمك بألقاب سلطاننا على عادة الغراوات؛ ثم تكمل الخطبة ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي: الحضرة العالية، السلطانية، الأعظمية، الشاهنشاهية، الأوحدية، الأخوية، القانية، الفلانية. ولا يخلط بها الملكية لهوانها عليهم؛ ثم يدعى له بالأدعية المفخمة الملوكية: من إعزاز السلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التصريح والتلويح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة؛ ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم والخدم، ويوصف التطلع إليها، ويظهر التهافت عليها؛ وأنه تكتب جميع خطبة الكتاب وطغراه بالذهب المزمك، وكذلك كل ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكل ذي شأن نبيل: من اسم الله تعالى أو لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أو ذكر الإسلام، أو ذكر سلطاننا أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلق بهما، مثل لنا ولكم، وكتابنا وكتابكم، جميع ذلك يكتب بالذهب وما سواه بالسواد. وأن العنوان يكون بالألقاب إلى أن ينتهي إلى اللقب الخاص؛ ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين نحو أعز الله تعالى سلطانها، وأعلى شانها؛ ونحو ذلك. ثم يسمى اسم السلطان المكتوب إليه؛ ثم يقال خان: مثل أن يقال: ترماشيرين خان، ويطمغ بالذهب طمغات عليها ألقاب سلطاننا تكون على الأوصال، يبدأ بالطمغة على اليمين في أول وصل، وعلى اليسار في ثاني وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين، ولا يطمغ على الطرة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطمغة مواضع الكتابة تارة يمنة، وتارة يسرة، إلى غير ذلك مما سبق القول عليه.
قلت: وآخر ما استقرت هذه المملكة لتمرلنك؛ وتمر اسمه الذي هو علم عليه، ومعناه بالتركية حديد. ولنك لقب عليه، ومعناه بالفارسية أعرج: لأنه كان به عرج ظاهر؛ ولذلك تسميته الترك تمر أقصق، إذ أقصق عندهم بمعنى أعرج. وهو يتسمى في كتبه تيموركوركان. ومن هذه المملكة أنساب على بلاد إيران حتى استولى على جميعها، وسار إلى بلاد الهند فاستولى عليها؛ ثم طاح إلى الشام في سنة ست وثمانمائة وعاث فساداً، وخرب وأفسد ولقيه السلطان الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام على دمشق؛ وجرت بينهما مراسلة؛ ثم طرأ للسلطان الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له من جهة بعض أمرائه، وبقى تمرلنك نازلاً بالشام محاصراً لدمشق، إلى أن خدع أهلها وفتحها صلحاً، ثم غدر بهم ونهبها وسبى حريمها، ثم حرقها بعد ذلك بعد أن أسرف في القتل وأثخن في الجراج، وأمعن في الأسر.
وللمكاتبة إليه حالتان:
الحالة الأولى- حين كان السلطان الملك الناصر فرج- عز نصره- بالشام محارباً له، وكتبه حينئذ ترد في القطع الصغير على ما سيأتي ذكره، وكان يكتب إليه حينئذ في قطع.
مما فات المؤلف رحمه الله تعالى:
ما كتب عن مولانا الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، في جواب الأمير تمرلنك المدعو تيمور، عن الكتب الواردة منه قبل ذلك- من إنشاء المرحوم المقر البدري محمد، ابن المرحوم المقر العلائي علي ابن المرحوم المقر المحيوي يحيى، بن فضل الله العمري العدوي القرشي رحمهم الله تعالى- في سنة ست وتسعين وسبعمائة، عند سفر مولانا السلطان المشار إليه إلى حلب المحروسة لملتقى المذكور، في قطع الثلث بغير علامة؛ وسعة ما بين السطور قدر عرض الإصبعين. والطرة وصلان، طولهما نحو الذراع الهاشمي، وكان عنوان كتاب تمرلنك الذي ورد آخراً وهو الذي اقتضى الحركة الشريفة والجواب المشار إليه.
سلام وإهداء السلام من البعد ** دليل على حسن المودة والعهد

فكتب العنوان الشريف:
طويل حياة المرء كاليوم في العد ** فخيرته أن لا يزيد عن الحد!

فلا بد من نقص لكل زيادة ** لأن شديد البطش يقتص للعبد!

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي الشان، العظيم السلطان، العميم الإحسان، العليم بما كان وما يكون في كل زمان ومكان؛ تاهت في ميادين فلوات معرفته سوابق جياد الأفهام، وتدكدكت لهيبة جلاله جبال العقول والأوهام؛ وصلى الله على سيدنا محمد حبيب الرحمن، وسيد الأكوان، وصاحب المعجزات والبرهان، المبعوث إلى الخلق أجمعين من الإنس والجان، والمنعوت بالفضل العميم، والخلق العظيم في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعلى آله وصحبه الغر الكرام الحسان، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب الحدثان.
وبعد، فقد وصل إلى أبوابنا الشريفة العالية كل ما جهزته أولاً وآخراً يا أمير تيمور من كتاب، وأحاطت علومنا الشريفة بما فيها من كلام وخطاب؛ وقصد وعتاب، وإرعاد وإرغاب وإرعاب.
فأما ما ذكرته في أول كتبك من ألقابنا الشريفة بالتعظيم، والتبجيل والتفخيم؛ فقد علمناه وعرفناه، ولكن وجدنا الكلمتين اللتين في الطمغات آخر الكتب وهما راستي رستي منافيتين لذلك التعظيم، وهذا غير مستقيم؛ لأنه متناقض غير متناسب، فعجبنا من هذا التناقض الواضح، والتخالف الفاضح؛ وفي المثل السائر: أصلح وقابل وأفسد وقابل.
وأما إرسالك السيف والتركاش لنا، فقد تعجبنا منه إلى الغاية، وأنكرناه إلى النهاية: لأنك لم تزل في كتبك كلها تستشهد بتاريخ جنكزخان وأخباره وأحواله، وتقتدي به في أقواله وأفعاله؛ وما سمعنا في التواريخ ولا اتفق قط من جنكزخان، ولا ممن تقدمه وتأخره من ملوك مملكته في زمن من الأزمان، أنه أهدى إلى خادم الحرمين الشريفين سيفاً ولا تركاشاً؛ ما اختلف في ذلك اثنان. فإرسالهما منك إلينا هل هو من باب المحبة أو لا، وإن كان تخويفاً، فنحن ما نخاف من سيفك وتركاشك بعناية الله العظيم الأعلى.
السيف والرمح والنشاب قد علمت ** منا الحروب فسلها فهي تنبيكا!

إذا التقينا تجد هذا مشاهدة ** في الحرب فاثبت فأمر الله آتيكا!

بخدمة الحرمين الله شرفنا ** فضلاً وملكنا الأمصار تمليكا!

وبالجميل وحلو النصر عودنا ** خذ التواريخ واقرأها تلبيكا!

والأنبياء لنا الركن الشديد فكم ** بجاههم من عدو راح مفلوكا!

ومن يكن ربه الفتاح ناصره ** ممن يخاف؟ وهذا القول يكفيكا!

وقد أجبناك عن السيف والتركاش فيما مضى قبل هذا الوقت وتقدم، فاعرف ذلك واعلم.
وأما ما ذكرته من قولك: إنك فتحت معنا باب المحبة والوداد، والصحبة والاتحاد، لا باب المخاصمة والمشاورة والعناد؛ فقد علمنا ذلك وفهمناه. والذي نعرفك به أن الذي وقع منك بخلاف ما قلت: لأنك لو كنت صادقاً في قولك، كنت لما حضر إليك شكر أحمد وأرغون السلامي اللذان هما من بعض ممالكينا ومن جملة رعايانا أمسكتهما وجهزتهما إلينا بعد أن قيدتهما؛ فما فعلت ذلك بل عملت بالضد منه لأنك آويتهما، وحميتهما وعظمتهما وأكرمتهما؛ وجعلتهما من خواصك وأحبابك، وأوليائك وأصحابك. وأيضاً توجه إليه صولة بن حيار الذي هو قطعة هجان من هجانتنا فأكرمته، وألبسته التاج وعظمته؛ وبعثت معه خلعة إلى نعير المذكور وإلى غيره من عربانه، ووعدته بالتقدمة والإمارة، بالتصرح العظيم لا بالتلويح والإشارة؛ وكتبت إليه كتاباً ما تركت فيه ولا خليت، وأظهرت كل ما كان عندك وما أبقيت؛ فجهزه إلينا وقرء على مسامعنا الشريفة كلمة كلمة، وعرفنا واضح معناه ومبهمه؛ وها نحن نشرحه لك لتعلم وتتحقق أنه واصل إلينا، واطلعنا عليه وما خفي أمره علينا. وهذا نصه: دام دولته الأمير الكبير، المعظم أمير نعير، أدام الله دولته شمساً. نعرض لعلو علومه المحروسة أنه قد اتصل بنا طردك عن الشام، ومعاملتهم معك غير الواجب. حال وقوفك على هذا المثال تسرع في الوصول إلينا بحيث نعطيك ما أعطي المرحوم عمك أمير سليمان طاب ثراه، ونجعلك مقدم العساكر المنصورة؛ وبهذا برز الحكم المطاع من الحضرة العالية؛ ففي عزم العساكر والجيوش المعظمة الوصول إلى أطراف البلاد شرقاً وغرباً ورومياً من سائر النواحي والأمصار، والبلاد والأقطار؛ وإن أبطأ ركابك عن الوصول، فنحن واصلون إليكم في طريقنا إلى مصر وغيره، ولا يبقى لطاعتك مزية ولا منة، فيكون ذلك على الخاطر المبارك. فينبغي أن لا يكون جواب الكتاب، إلا قدوم الركاب؛ ففيه لكم الفوائد العظيمة، والعطايا الجسيمة؛ ومع ذلك إصابة الرأي منكم، تغني عن تأكيد الوصية إليكم؛ ومهما عرض من المهام يقضى حسب المراد، منهج السداد؛ والله الموفق.
وبحاشية الكتاب المذكور ما نصه: وقد كتبنا إلى السلطان أحمد أن يصل إلينا، فانظر كيف كان عاقبة أمره؟ فينبغي أن تتوجه أو يتوجه بعض أولادك إلينا لأجل مصالحك كافة.
فيا أمير تيمور لو كنت صادقاً، وكلامك بالحق ناطقاً، ما وقع منك مثل هذا ولا صدر، ولا اتفق بل ولا ببالك خطر؛ ولكن كل ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكل وعاء ما ينضح إلا بما فيه.
يا فاعلاً بالضد من قوله ** فعل الفتى دال على باطنه

والمرء مجزي بأعماله ** إذا أظهرت ما كان في كامنه

وأما طلبك منا السلطان أحمد الحلايري غير مرة، فقد علمناه. ولكن عرفنا يا أمير تيمور إيش عمل بك؟ حتى حلفت له عدة مرار بأيمان الله تعالى العظيمة وأعطيته العهود والمواثيق بأنك ما تتعرض إليه ولا إلى مملكته ولا توافيه ولا تشوش عليه، حتى اطمأن بأيمانك، وركن إليك، وأحسن ظنه فيك، ووثق بك، واعتمد عليك فخنته وغدرته، وأتيته بغتة على حين غفلة وبدرته؛ وأخذت مملكته وبلاده، وأمواله وأولاده. وأعظم من ذلك أنك أخذت أيضاً حريمه وهن في عقد نكاحه وعصمته وأعطيتهن لغيره، وقد نطق الكتاب والسنة بتحريم ذلك وعظم ذنب فاعله وقبيح جرمه؛ ففي أي مذهب من المذاهب يحل لك أخذ حريم المسلمين، وإعطاؤهن لغير أزواجهن من المفسدين الظالمين؟ وهن في عصمة أزواجهن وعقد نكاحهن إن هذا لهو البلاء المبين؛ وكيف تدعي أنك مسلم وتفعل هذه الفعال؟ عرفنا في أي مذهب لك هذا حلال؟ فأعمالك هذه كلها منافية لدعواك، بل منافية لدين الإسلام، وشرع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقال: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقال: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال عز وجل: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} وقد بين لنا الخير والشر، والحلال والحرام وأهلها فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا} وقال تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وقال عليه السلام: «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه». ففي أي مذهب من دين الإسلام تستحل هذه المحرمات العظيمة، والمنكرات القبيحة الشنيعة الجسيمة، التي يهتز لها العرش ويغضب الله عز وجل لها ورسله والملائكة والناس أجمعون؟ وما كفى ما فعلت مع القان أحمد المشار إليه حتى تطلبه منا؟ اعلم أن القان أحمد المشار إليه قد استجار بنا وقصدنا، وصار ضيفنا؛ وقد ورد: من قصدنا وجب حقه علينا. وقال تعالى لسيد الخلق أجمعين في حق الكفار الذي هم أنحس الناس: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فكيف بالمسلمين إذا استجاروا بالمسلمين؟ كيف بالملوك أبناء ملوك المسلمين، الذين لأسلافهم الكرام معنا ومع ملوك الإسلام خدام الحرمين الشريفين صحبة ومحبة وأخوة في الله تعالى؟ ولو لم يكن ذلك كيف يجوز في شرع المروءة والنخوة الوفاء أن نسلم ضيفنا ونزيلنا والمستجير بنا؟ خصوصاً وجنسنا جركس جنس ملوك الإسلام السالفين، خدام الحرمين الشريفين الذين اتفق لهم مع التتار ما تشهد به التواريخ، ومن عادتنا وشأننا وطباع جنسنا أننا لا نسلم ضيفنا ولا نزيلنا ولا من استجار بنا لأحد. وإن كنت ما تصدق ذلك فعندك من هم من جنسنا، سلهم يعرفوك، فنحن لا يضام لنا نزيل، ونقري الضيف ونعامله بالجميل، وهذه جبلتنا الغريزية وعادة أصلنا الأصيل؛ فإرسال القان أحمد إليك أمر مستحيل.
إنا ذوو الفضل الغزير الوارف ** أبوابنا هي ملجأ للخائف!

نقري الضيوف ولا يضام نزيلنا ** شيم ورثنا فضلها عن سالف!

وكليمة تكفي الذي هو عاقل ** والرمز تصريحاً غدا للعارف!

وقولك: إن العادة كانت جارية بين من سلف من ملوك الإسلام وملوك التتار، أنه من هرب من جهة إلى أخر يمسكه الملك الذي يهرب إليه ويقيده ويجهزه إلى الملك الذي هرب من عنده، وأن دمرداش بن جوبان لما هرب في الزمن الماضي من ملكه وجاء إلى سلطان مملكتنا المعظمة المشرفة، أمسكه وقيده وأرسله إليه، فقد علمناه، وليس هذا الذي قلته وحكيته بصحيح، لأن الذي وقع واتفق بخلافه: وهو أن أميراً من أمراء السلطان الملك الناصر كان يسمى قراسنقر، هرب من عنده وراح إلى أبي سعيد فقطع رأسه، وجهزه إلى الملك الناصر. وأما دمرداش المذكور فالملك الناصر ما أرسله إلى أبي سعيد مثل ما قلت وما مات دمرداش المذكور إلا في مصر المحروسة، فليكن ذلك في علمك ثابتاً؛ وعلى كل حال فكلامك حجة عليك لا لك: لأنك قد أويت شكر أحمد وأرغون السلامي وأكرمتهما وقربتهما، وكذلك كل من حضر إليك من مماليكنا ورعايانا وخدمنا من أهل مملكتنا، فلو أسمكتهم وقيدتهم وجهزتهم إلينا، كنت تكون صادقاً في قولك، وكنت إذا طلبت منا أحداً ما تلام على طلبه، فكيف وأنت البادي والمعتدي؟ فهذا الكلام كله شاهد عليك لا لك.
وأما قولك: إن صاحب تكريت كان حرامياً قاطع طريق، ففعلت معه ما فعلت مقابلة له على نجسه وحرامه وقطعه الطرقات، فقد علمناه وسلمنا لك هذا الأمر، بيض الله وجهك، وما قصرت فيه، فحبذا ما عملت، ونعم ما فعلت في حقه من إعطائه جزاءه. أفأهل بغداد كانوا حرأمية قطاع طريق حتى فعلت بهم فعلت، وقتلت منهم من التجار خاصة ثمانمائة نفس في المصادرة بالعقوبة والعذاب. ففي أي مذهب يجوز هذا؟ وهل يحل لمن يدعي الإسلام أن يعمل بخلق الله تعالى الذين أمر بالشفقة عليهم والإحسان إليهم ونشر العدل فيهم هذه الفعال؟ وقد تعجبنا منك يا أمير تيمور إلى الغاية! كيف تدعي أنك عادل، وتعمل بأهل بغداد المسلمين الموحدين وبغيرهم من المسلمين هذه العمائل؟ أما تعلم أن الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله! وأن الله رحيم يحب من عباده الرحماء، وأن الظلم حرام في جميع الملل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا. وقال عليه السلام: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن». وورد: «إن فاتني ظلم ظالم فأنا الظالم» وحسب الظالمين رب العالمين الذي قال في حقهم {ألا لعنة الله على الظالمين} وقال: {إنه لا يفلح الظالمون}. والباغي له مصرع. ولما جاء هولاكو ومنكوتمر وغازان وقصدوا ملوك الإسلام خدام الحرمين الشريفين، الذين كانوا من جنسنا كما ذكرنا لك أعلاه، اتفق لهم ما اتفق مما هو مشروح في التواريخ ومعلوم عند الناس؛ فمهما أخذه أولئك تأخذه إذا جئت.
وأما قولك في كتبك: إنه إن لم نجهز إليك السلطان أحمد الحلايري مقيداً تجيء في أول فصل الربيع إذا نزلت الشمس برج الحمل، أو لما تنزل الميزان، وإن جهزناه إليك مقيداً، تتأكد المحبة والصحبة بيننا وبينك، فقد علمناه؛ والذي نعرفك به هو أننا كنا نتوقع أنك تجيء قبل هذا الوقت، فقد أبطأت كثيراً، وملوك الإسلام خدام الحرمين الشريفين الذين كانوا قبلنا ما تصالحوا مع مثل هولاكو وغيره إلا حتى تزاوروا وتقابلوا واجتمعوا، ونحن أيضاً كذلك، ما نصطلح إلا بعد أنت نتزاور ونتقابل ونجتمع. وأنت طلبت أحمد الحلايري، وها نحن واصلون إليك به، نطلب منك أن تشفعنا فيه، وتهبنا ذنبه الذي صدر منه، وندخل عليك بسببه، ونسأل إحسانك أن تعين لنا موضعاً نلتقي معك فيه، حتى نأتيك بأحمد الحلايري المذكور فيه، ونشفع فيه عندك. فعين لنا الموضع المذكور على حسب ما تختار: إما من ذاك الجانب من الفرات، أو من هذا الجانب. وأي موضع عينته وسميته لنا جئناك بالمشار إليه فيه، وندخل عليك في أمره، ونستوهب ذنبه منك.
وأما ما ذكرته من أمر الرسول، فقد علمناه. والذي نعرفك به هو أن الرسول المذكور كان يكتب المنازل منزلة منزلة إلى بلادنا المحروسة، واطلع عليه في ذلك جماعة من جهتنا؛ ولما وصل إلى الرحبة المحروسة، قال للنائب بها: بس الأرض للأمير تيمور واقرأ الخطبة باسمه. فلو كان رسولاً مصلحاً ما كان كتب المنازل، ولا أكثر فضوله، وتحدث بما لا ينبغي له، وتكلم فيما لا يعنيه، وتعدى طوره: لأنه لا ينبغي للرسول أن يكون إلا أعمى أخرس غزير العقل، ثقيل الرأس، كما قال بعضهم:
إذا قصدت الملوك فالبس ** من التقى والعفاف ملبس!

أدخل إذا ما دخلت أعمى ** واخرج إذا ما خرجت أخرس!

وكيف يمكن نائبنا الذي هو من جملة مماليكنا، وجبل لحمه ودمه على أنعمنا وصدقاتنا، وغذي وربي بلبان فضلنا وجودنا أن يبوس الأرض لغيرنا، أو يخطب باسم غيرنا؟ وكيف يترك اسم خادم الحرمين الشريفين أستاذه؛ ويذكر اسم غيره؟. فقد تكررت منك الفعال القبيحة، الموجبة لما يقدره الله تعالى؟ ونحن نقسم بالله تعالى لولا قلت لنعير تعال حتى أعملك مقدم العساكر، ونمشي على الشام ومصر؛ وقربت مماليكنا وآويتهم، وبدأ بهذا كله وحصل منك التعدي، ما كان يتفق لرسلك ما اتفق. ولكن الجزاء من جنس العمل، والخير بالخير والبادي أكرم، والشر بالشر والبادي أظلم.
وأيضاً كل وقت تسأل عن ممالكنا المصونة، وكثرة عساكرنا المنصورة من قلتها. فلو كنت طالباً المحبة والصحبة والمصادقة، ما وقع منك هذا.
وأما قولك إن هولاكو أخذ من كل مائة رجل رجلين وجاء بهم، وأنت قد جئت بالرجلين وبالمائة، واعتمادك على كثرة عسكرك على قولك فقد علمناه، وإن كان اعتمادك على كثرة عسكرك فاعتمادنا نحن على الله تعالى واستمدادنا من الحرمين الشريفين، ومددنا ممن بهما من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والصحابة والصالحين رضي الله عنهم. فإذا تلاقينا يكون ما يقدره الله تعالى ويعطي الله النصر لمن يشاء، وتعلم ذاك الوقت لمن العاقبة؛ ويظهر فعل الرب القادر تعالى، وعوائده الجميلة بنا التي لا شك عندنا فيها ولا ريب، وقط ملوك التتار ما انتصروا على ملوك الإسلام، بل ملوك الإسلام خدام الحرمين الشريفين، هم المؤيدون المنصورون المظفرون بعون الله تعالى، وببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، معودون من الله الكريم بالفضل والإحسان والغنائم والفتوحات: لأنهم أهل الكتاب والسنة والعدل والخير والخوف من الله تعالى، لا يقعون في محارمه، ولا يقدمون على ارتكاب ما ينهى عنه، فهم المؤمنون المتقون. وقال الله تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا} وقال: {والعاقبة للتقوى} وقال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} وسوف ينجز الله تعالى وعده، لأنه لا يخلف الميعاد.
وأما ما ذكرته من أمر قرا يوسف وبير حسن وغيرهما، وأن في معاشهم زغلاً، وأنهم مفسدون. وجعلك لكل واحد منهم ذنباً، وأنك أنت العادل الخير المفلح، والناس كلهم مناحيس وأنت الصالح؛ والله يعلم المفسد من المصلح، فقد علمناه. والذي نعرفك به هو أن النور لا يجتمع مع الظلام، ولا اليقظة والمنام، ولا الخير والشر في حيز واحد: لأنها متضادة، ليس بينها اتفاق ولا التئام، وفعل المرء دال على نيته وطويته، قال الله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} وقال: {وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وشتان ما بين أهل الخير والفساد، وأهل العدل وأهل البغي والعناد؛ فالخير هو المتقي، ومن يرتكب ما حرم الله ويعتقد أنه على الحق فهو الشقي.
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيته ** ولا الذنب منه مع عظيم بليته

فذلك عين الجهل منه مع الخطا ** وسوف يرى عقباه عند منيته

وليس يجازى المرء إلا بفعله ** وما يرجع الصياد إلا بنيته!

أما قولك إن نعير العرب أرسل بالخفية يطلب السلطان أحمد، وأننا نرسم لنوابنا أن يحترزوا من توجهه إليه ولا يمكنوه من ذلك، فإنه إن اتفق توجهه إليه يكن ذلك سبباً لخراب الديار، فقد علمناه. والذي نعرفك به هو أننا نتحقق أن ما يحصل خراب الديار والدمار ومحو الآثار إلا لمن يسعى ويتكلم بخراب الديار {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}. وستعلم ديار من تخرب، وعمر من يذهب، وعلى من تكون دائرة السوء دائرة، وسطوات المنايا قاهرة؟ {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} وها نحن واصلون بجيوش وجنود وعساكر مؤيدة من السباع أسبع، لا تروى أسلحتهم من دماء البغاة ولا تشبع، والجواب ما ترى لا ما تسمع:
قل للذي في الورى أضحى يعادينا ** احذر فأمرك رب العرش يكفينا!

ما زال يمنحنا فضلاً ويكلونا ** وفي العدا بعظيم النصر يشفينا!

أقامنا زحمةً للناس أجمعهم ** ولم يزل من جزيل الجود يعطينا!

بالعز والنصر والتأييد عودنا ** وزادنا في مديد الأرض تمكينا!

وللجميل وفعل الخير وفقنا ** شكراً له ستره الأعلى يغطينا!

قد أسكن الرحمة الحسنى التي أمنت ** بها الأنام بأقصى ملكنا فينا!

فكلما بالدعاء المرتضى نطقت ** لنا الرعايا أجاب الكون آمينا!

الله حافظنا الله ناصرنا ** من ذا يعاندنا؟ من ذا يقاوينا؟

والله الموفق بفضله العميم، والهادي إلى الصراط المستقيم، بمنه وكرمه، وجوده ونعمه، إن شاء الله تعالى.
كتب في...... من جمادى الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة.
الحالة الثانية- حين عاد السلطان من الشام إلى الديار المصرية وخرب هو دمشق وحرقها، ثم انتقل عنها، وترددت رسله بطلب أطلمش: أحد أمرائه الذي كان قد أسر في أيام السلطان الملك الظاهر برقوق.
وفي هذه الحالة كان يكتب له في قطع الثلثين، والعنوان بقلم جليل الثلث بحل الذهب سطران، مضمونهما المقام الشريف العالي، الكبيري، العالمي، العادلي، المؤيدي، المظفري، الملجئي، الملاذي، الوالدي، القطبي، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، دامت معدلته تيمور كوركان. والبسملة في أول الوصل الرابع، والخطبة جميعها بالذهب، وكذلك البعدية وما يتعلق بالمكتوب إليه على عادة القانات، والعلامة بجليل الثلث بحل الذهب بالهامش ما صورته: المشتاق فرج بن برقوق إلا أنه اختلف مكانها في المكاتبات على ما سيأتي ذكره. إلا أن افتتاح المكاتبة إليه في هذه الحالة كان على ضربين بحسب ما اقتضاه الحال.
الضرب الأول: الافتتاح بأما بعد وذلك عند أول عقد الصلح:
وهذه النسخة مكاتبة إليه جواباً عما ورد منه بطلب أطلمش المذكور والتماس الصلح: جهزت صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن غلبك، والأمير قاني بيه صحبة رسوله خواجا مسعود الكججاني رسوله الوارد بكتابه، في جمادى الأولى سنة خمس وثمانمائة. وعلم له فيها في الهامش بين السطرين الثاني والثالث بقلم جليل الثلث بحل الذهب المشتاق فرج بن برقوق على ما تقدم ذكره؛ والورق قطع الثلثين وهي: أما بعد حمد الله الذي جعل الأرواح أجناداً مجندة، ووصل أسباب الرشد والفلاح بمن افتتح باب الإصلاح ولم يخلف موعده، وكفل لمن توكل عليه في أموره النجاح يومه وغده. والشهادة له بأنه الله القاهر فوق عباده بقدرته المؤيدة، والصلاة والسلام على أشرف نبي طيب الله عنصره ومحتده؛ وأصلح ببعض نسله الشريف بين فئتين عظيمتين بلغ كل منهما من الخير مقصده. وعلى آله الطاهرين، وذريته الظاهرين بالمصالح المرشدة، وأصحابه الذين كانت غالب قضاياهم صلحاً بين الناس ورسلهم بالاتفاق مرددة ومن عدم الشقاق غير مترددة؛ صلاةً وسلاماً نصل بهما حبل البنوة بالأبوة المتجددة، ونخمد بهما نار الحرب المتوقدة.
فقد أصدرنا هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيري، العالمي، العادلي، المؤيدي، المظفري، الملجئي، الملاذي، الوالدي، القطبي، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، تيموركوركان، دامت ولا تتناهى غاياته؛ وتبدي لشريف علمه أن مفاوضته العالية التي وردت أولاً وآخراً، تضمنت رموزها باطناً وظاهراً، تجهيز الأمير أطلمش لزم المقام الشريف إلى حضرته العلية: لتنحسم مادة الحركات، وتسكن القلوب والخواطر في سائر الجهات؛ وتتحد المملكتان في الصداقة والوفاء، والمحبة والصفاء، على الصورة التي شرحها، وبين مناهجها ووضحها؛ خصوصاً ما أشار إليه من أن لجواب الكتاب حقاً لا يضيع؛ فوقفناعليها وقوف إجلال، وفهمنا ما تضمنته على التفصيل والإجمال.
والذي نبديه إلى علومه الشريفة أن سبب تأخير أطلمش أنه قدم المقام الشريف إلى حدود الممالك الشامية، وتوجهنا من الديار المصرية، عرض لنا ما أوجب العود إليها سريعاً، وكان الحزم فيما فعلناه بمشيئة الله تعالى. ثم تحققنا من المفاوضة الواردة على يد سودون، وسودون والنمر، والحاج بيسق أحد أمراء أخورية، قسمة بالله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحي الذي لا ينام ولا يموت أنه إن جهز إليه أطلمش المشار إليه، رجع المقام الشريف إلى بلاده، وأنه متوقع حضوره إليه بقارة؛ أو سلمية، أو حمص، أو حماة. فأخذنا في تجهيزه إلى حضرته الشريفة على أجمل ما يكون.
فبينا نحن على ذلك إذ وردت علينا الأخبار بما اتفق لدمشق وأهلها: من أنواع العذاب وتخريب قلعتها وديارها؛ وإحراق جامعها الذي هو الجامع الفرد في الممالك الإسلامية، وغيره من المساجد والمدارس والمعاهد والعابد. فلما تواترت هذه الأخبار، وتحققت هذه المضار، لمحنا من عدم ترحلكم عن دمشق وهي عامرة نقض ما تقرر، وعدم التفاتكم إلى الأمير أطلمش المذكور وتجهيزه. فلما وردت مفاوضته الشريفة المجهزة إلى صاحب ماردين، أرسلها إلينا وهي الواصلة على يد المجلس السامي، الشيخي، الكبيري، العالمي، الناسكي، الحسيبي، النسيبي، الشرفي، عبد المؤمن، شيخ الجبال، ابن ولي الله، إمام العارفين، عبد القادر الكيلاني، أعاد الله تعالى من بركاته، والصدر الأجل فخر الدين التاجر السفار، المؤرخة بثاني عشر ذي القعدة الحرام من سنة أربع وثمانمائة، المتضمنة وصول المقام الشريف إلى أرزنكان وكماخ قاصداً للبلاد الرومية، والقصد فيها تجهيز الأمير أطلمش وأن يفتح باب المصالحة، ويسلك طريق المصادقة؛ رعايةً لصلاح المملكتين، ونظراً إلى إصلاح ذات البين؛ وأنه لا مطمع في صحة المودة، وإرسال أطلمش صحبة شخص من مقربي حضرتنا الشريفة: لينظر ما يصدر بعد وصولهما من تمهيد قواعد المجاملة، وتشييد مباني المحبة. وأن المقام الشريف- زيدت عظمته- أقسم بالله الذي هو في السماء إله وفي الأرض إلهٌ، أن يكون في هذه الحياة محباً لمن يحبنا، مبغضاً لمن يبغضنا، وأنا نتلفظ بحضور الأمير أطلمش كما تلفظتم. فعند ذلك اجتمعنا مع مولانا أمير المؤمنين، المتوكل على الله، أدام الله تعالى أيامه، والشيخ الإمام الفرد، شيخ الإسلام سراج الملة والدين عمر البلقيني- أعاد الله تعالى من بركته- وقضاة القضاة ومشايخ العلم والصلاح، وأركان الدولة الشريفة، وقرئت المفاوضة بحضورهم. فلما سمعوا ما تضمنته من عظيم القسم، والحلف بباريء النسم، وعلموا أن جل القصد فيها تطلع المقام الشريف إلى تجهيز الأمير أطلمش المذكور، فاجتمعت الآراء على إرساله إلى حضرته الشريفة صحبة من اقتضته الآراء الشريفة. ثم وردت بعد ذلك المفاوضة من المقام الشريف- زيدت عظمته- على يد شخص من أهل أزمير- مؤرخة بثاني عشر شهر صفر المبارك سنة تاريخه، متضمنة ما حصل من النصر على ابن عثمان، والظفر به، والاستيلاء على غالب قلاعه. وزبدة الكلام فيها الإسراع بتجهيز أطلمش المذكور، ليجتمع شمله بأولاده بالحضرة الشريفة. ثم بعد ذلك وردت علينا مفاوضةٌ شريفةٌ على يد المجلس السامي، الشيخي، الكبيري، الأوحدي، العارفي، السالكي، المقربي، مسعود الكججاني، رسول المقام الشريف، وصحبته المجلس السامي، الشيخي، الكبيري، العالمي، العاملي، الأمامي، القدوي، الشمسي، شيخ القراء، إمام أئمة الكبراء، محمد بن الجزري أدام الله النفع به. مؤرخة بغرة ربيع الأول سنة تاريخه، متضمنة معنى الكتابين المجهزين من ماردين وأزمير. وجل القصد فيها تجهيز الأمير أطلمش لتحصل طمأنينة قلوب العالمين، وإخماد باب الفتن، وأن العمدة على المشافهة التي تحملها الخواجا نظام الدين مسعود المشار إليه، وأن قوله قول المقام الشريف. ومهما عقد الصلح عليه والتزم به، كان من رأي المقام الشريف وشوره، لا يخرج عنه ولا يميل إلى غيره بقول ولا فعل. فلما أحضرناه وأصغينا إلى ما تحمله من المشافهة، فإذا هي مشتملةٌ على خالص المحبة، وأن يكون المقام الشريف والدنا عوضاً عمن قدس الله تربه، وأن نجهز الأمير أطلمش إليه، وتكون عمدتنا بعد الله عز وجل عليه؛ فقابلنا ذلك بالقبول والاستبشار، ومحونا آية ليل الجفاء، وأثبتنا آية نهار الوفاء في الإعلان والإسرار؛ وقبلنا أبوته الكريمة على مدى الأزمان وتوالي الأعصار، وشاهد الخواجا مسعود حال أطلمش، وعلم اهتمامنا بتجهيزه قبل وصوله بمدةٍ اعتماداً على ألبته السابقة، ووثوقاً بما صرح به من الاتحاد والمصادقة، وعقدنا الصلح مع الشيخ نظام الدين مسعود المذكور بطريق الوكالة الشرعية عن المقام الشريف، وحلفنا نظير ما حلف عليه، بموافقة مولانا أمير المؤمنين- أدام الله أيامه- على ذلك بمحضر من شيخ الإسلام، وقضاة القضاة، ومشايخ العلم والصلاح، وأركان الدولة الكبار، مع حضور الأمير أطلمش، لزم المقام الشريف، وشهادة من يضع خطه على نسخ الصلح التي كتبت، وجهزنا منها نسختين مثبوتتين إلى حضرته الشريفة قرين هذا الجواب الشريف، لتحيط العلوم الشريفة بمضمونها، وبأحدهما خطنا الشريف لتخلد بخزانته الشريفة، والأخرى يشملها بخطه الشريف وتعاد إلينا صحبة رسولنا: المجلس العالي الأميري، الكبيري، المجاهدي، المؤيدي، المقربي، الأعزي، الأخصي، الأصيلي، الشهابي، أحمد بن أغلبك الناصري مقربنا ومقرب والدنا الشهيد- أدام الله تعالى نعمته- وجهزنا صحبته المجلس السامي، الأمير، الأجل، الكبير، المقرب، المرتضى، الأخص، الأكمل، سيف الدين، قاني باي الخاصكي الناصري، أدام الله سعادته، المتوجهين بهذا الجواب الشريف، المجهزين صحبة الأمير أطلمش، وبقية قصاد المقام الشريف ورسله. حضرته الشريفة قرين هذا الجواب الشريف، لتحيط العلوم الشريفة بمضمونها، وبأحدهما خطنا الشريف لتخلد بخزانته الشريفة، والأخرى يشملها بخطه الشريف وتعاد إلينا صحبة رسولنا: المجلس العالي الأميري، الكبيري، المجاهدي، المؤيدي، المقربي، الأعزي، الأخصي، الأصيلي، الشهابي، أحمد بن أغلبك الناصري مقربنا ومقرب والدنا الشهيد- أدام الله تعالى نعمته- وجهزنا صحبته المجلس السامي، الأمير، الأجل، الكبير، المقرب، المرتضى، الأخص، الأكمل، سيف الدين، قاني باي الخاصكي الناصري، أدام الله سعادته، المتوجهين بهذا الجواب الشريف، المجهزين صحبة الأمير أطلمش، وبقية قصاد المقام الشريف ورسله.
ومما نبديه لعلومه الشريفة أنه مما تضمنه المخلص الشريف المجهز عطف الكتاب الواصل على يد الشيخ مسعود الكججاني مضاعفة الوصية بأولاد الشيخ شمس الدين الجزري ورعاية أحوالهم وتعلقاتهم. وقد قابلنا ذلك بالإقبال والقبول وقررنا لهم بالأبواب الشريفة. ونحن بشهادة الله- وكفى به شهيداً- قد أخلصنا النية للمقام الشريف، وعاهدنا الله عز وجل في التعاضد والتناصر والاجتهاد، في عمل المصالح للعباد والبلاد، وعدم التقاصر والعمل بما فيه بياض الوجه عند الله في الدنيا والآخرة، وإجراء الأمور على السداد. بتوفيق الله عز وجل، وطلباً لرحمته الباطنة والظاهرة. ثم استقبل لسان الحال ينشدنا:
يا أول الصفو هذا آخر الكدر

فيكون ذلك في علومه الشريفة، والله تعالى يديم عوارفه الوريفة، بمنه وكرمه.
والمستند حسب المرسوم الشريف.
الضرب الثاني: ما صار إليه الأمر بعد وصول أطلمش إليه:
وهذه نسخة جواب والعنوان سطر بقلم الثلث بماء الذهب ما صورته: المقام الشريف، العالي، الكبيري، العالمي، العادلي، المؤيدي، المظفري، الملجئي، الملاذي، الوالدي، القطبي، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين؛ تيموركوركان- زيدت عظمته-.
والطرد ثلاثة أوصال، والبسملة الشريفة في أول الوصل الرابع. ثم الحمد لله وتتمة الخطبة بالذهب، وبيت العلامة عرض أربعة أصابع مضمومةً، وما يليها من الأسطر سعة ثلاث أصابع، والعلامة الشريفة بين السطر العاشر والحادي عشر من سطور الكتابة، موافقاً لانتهاء الخطبة عند أما بعد فقد صدرت هذه المفاوضة. والعلامة الشريفة بجليل الثلث بماء الذهب المشتاق فرج بن برقوق. وهامش الكتاب أربعة أصابع مطبوقةً، والخطبة وما يليها من البعدية وألقاب المقام القطبي المركبة والمفردة الجميع بالذهب. ومضمونه بعد البسملة: الحمد لله الذي شيد قواعد الإصلاح، ومهد مواطن الرشد والنجاح، وجعل أذان المؤمن يجيب داعي الفلاح.
نحمده على أن ألف بين القلوب بلطيف الارتياح، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله زم نفوس المؤمنين بحبل التقوى من حمية الجماح، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي وضح من نور رسالته فجر الإيمان ولاح، ونفح من نور معجزاته زهر الدين الحنيفي وفاح؛ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الذين شدوا ظهور كلمهم من الصدق بأتقن وشاح، وعلى صحابته الذين بينوا من عهودهم بفقههم في الدين الواجب والمندوب والمحظور والمباح؛ وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فقد صدرت هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيري، العالمي، العادلي، المؤيدي، المظفري، الملجئي، الملاذي، الوالدي، القطبي، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين:
ملكٌيفوق الخلق طرا هيبةً ** فبه نهاية غاية التأميل!

تيموركوركان- زيدت عظمته، ودامت معدلته؛ ولا زالت رايات نصره خافقة البنود، وآيات فضله متلوة في التهائم والنجود؛ وسحب فضائله هأمية بالكرم والجود، ومهابة سطوته تملأ الوجود- تهدي إليه من السلام ما حلا في حالتي الصدور والورود، ومن الإخلاص ما صفا وضفت منه البرود.
وتبدي لعلمه الشريف أن مفاوضته الشريفة وردت عليها جواباً عما كتبناه إلى حضرته الشريفة، على يد المجلس العالي الأميري الشهابي، أحمد بن غلبك وسيف الدين، قاني بيه الناصري، المجهزين صحبة المجلس العالي، الأميري، الجلالي أطلمش، لزم المقام الشريف، بوصول الأمير جلال الدين أطلمش إلى حضرته الشريفة طيباً، مبدياً بين يديه ما حملناه من رسائل الأشواق، مبيناً ما هو اللائق بخلاله الحسنة عن حضرتنا ما دبج به الأوراق، شاكراً لإنعاماتنا التي هي في الحقيقة من شيم فضلكم الخفاق، مثبتاً منه ومن فحوى الخطاب في نظم الكتاب صدق المقال وصحة العهد ورسوخ الميثاق، وأنه قد ثبت بما بث من غرائب المعاني حصول الأماني، وسرى بعد ما يكون من هدايا التهاني، وأن الذي اتفق الآن هو المطلوب، والمكتوب به إلى والدنا الشهيد الطاهر أولاً هو المرغوب؛ وخلافه كان موجباً لنقل الحركات الشريفة إلى جهة البلاد، وما اتفق فيه للعباد؛ ولكن كل بقضاء وقدر. ولما حصل قبول الإشارة بتجهيز الرسل والأمير أطلمش، صارت القلوب متفقة، والعيون قارة؛ وصفت موارد الصفاء، وضفت برود الوفاء؛ وقطعت حبال المنافاة والجفاء. وأن المقام الشريف كان أقسم في كتبه قسماً وأعاده، ثم فصل مجمله وأفاده؛ وهو- والله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحي الذي لا ينام ولا يموت- من يومه هذا لا يخاف ما صدر من عقد الصلح المسطور، ولا يرجع عن حكمه للعهد المزبور؛ ويحب من يحبنا ويبغض من يبغضنا؛ ويكون سلماً لمسالمينا، حرباً لمحاربينا؛ ومتى استنصرنا به على أحد من مخالفينا أمدنا بما شئنا من العساكر، وأنه أمر ما ناله أحد من الناس غيرنا، وإنه لو كان القسم على الوجه الذي ذكره مصرحاً مذكوراً في لفظ الكتاب، وعبارة الخطاب، لكان أوضح والتبيين أملح؛ وأنه حيث كان بأطراف ممالكه المجاورة لممالكنا أحدٌ من المفسدين يجهزه إلينا مقيداً. وحيث كان أحدٌ من المفسدين بممالكنا المجاورة لممالكه يعرفنا به لنجهزه إليه: لاتفاق الكلمتين، واتحاد المملكتين، وطمأنينة لقلوب الرعايا والسالكين من الجهتين؛ وما تفضل به: من سؤال المقام الشريف الله عز وجل زيادة أسباب دولتنا، ونمو إيالتنا، وأن الهلال إذا رأيت نموه، أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً. وأنا سنرى ما يصنعه المقام الشريف، من الفضل المنيف، ومن تلافي الأمور، ما يظهر للخاصة والجمهور، مما يزيد بدرنا نمواً، وقدرنا بين الملوك سمواً: لأنه لنا أكفى كفيل، وأشفق من الولد والصاحب والخليل؛ وإن من علامة الصفا، إظهار ما خفى، وهو أن في أطراف ممالكنا الآن بلاداً كانت داخلةً في ممالكه، وهي أبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الروم، والبيرة؛ وأنه كان حمل معناها على لسان المجلس السامي، النظامي، مسعود الكججاني أولاً، المجهز الآن صحبة الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه، وأن القصد أن نأمر من بها من النواب أن تسلمها لنوابه، والمعول في انتظام الأمور على ما تحمله المشار إليه وعول عليه؛ وأنه شاكرٌ لمرافقنا، موافقٌ لموافقنا؛ وأنه يصغى إلى ما نبديه، ونتحف به ونهديه، على الصورة التي أبداها، والتحية التي بكريم الشيم أهداها؛ فقد علمنا ذلك جملةً وتفصيلاً، وشكرنا حسن صنيعه إقامةً ورحيلاً؛ وتضاعف سرورنا بوصول الأمير أطلمش إلى الحضرة الشريفة. ووصل إلينا الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه مرتلين من ذكر محاسنكم ترتيلاً، وعرضا ما تفضلتم به في حقنا إكراماً وتوقيراً وتبجيلاً، وأنهيا بين أيدينا ما عوملا به من الفضل الذي ما عليه مزيد، والبر الذي تعجز الفصحاء أن تبديء بعض محاسنه أو تعيد؛ وأنهما كانا كل يوم من توفر الفضل في يوم عيد، وحصل لهما من الإقبال ما لا يحصى بالحصر والتحديد؛ فحمدنا للمقام الشريف الوالدي حسن هذا الفضل العام، وشكرنا جميل تفضله الذي أخجل الغمام؛ وتزايد شوقنا وحبنا حيث زمزمت ألفاظ المفاوضة الشريفة إلى ذلك المقام.
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد!

وهذا هو اللائق بالخلال الشريفة، والمؤمل في جلال صفاته المنيفة؛ ووصل الخواجا نظام الدين صحبتهما مبدياً عن جنابكم من رسائل المحبة والصفاء، والمودة والوفاء، ما يعجز عن وصفه الناظم والناثر، مظهراً من حسن المودة وعزيز المعرفة ما يفخر به الموالي والمؤاثر؛ سالكاً من تأكيد أسباب الصلح ما تتجمل به مفارق المفاخر، معتذراً عما تقدم فما قدر ربما يكون سبباً لإصلاح الآخر؛ متكفلاً عن صفاء طويتكم لنا بما يسر السرائر؛ فضاعفنا إكرامه، ورادفنا إنعامه، ووفرنا من العز أقسامه، وأنزلناه منزلاً يليق به، ووصلنا كل خيرٍ بسببه؛ وما هو إلا مستحقٌ لكل ما يراد به من فيض فضل وفضل.
وأما ما أشار إليه من إعادة القسم تأكيداً للصلح، وتوضيحاً للنجح؛ ولو كان القسم الذي أقسمنا به مصرحاً لكان أولى، فقد علمنا ذلك وكتبنا ألفاظ القسم في كتاب الصلح مصرحةً، وأعدناه إلى حضرته ليقرأ على مسامعه الشريفة؛ ويشمله الخط الشريف ويعاد إلينا، ونحن نكرر القسم، بباريء النسم؛ الذي لا إله إلا هو، الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحي الذي لا ينام ولا يموت، أنا من يومنا هذا لا نخالف ما انتظم من عقد الصلح المسطور، إلى يوم البعث والنشور؛ ولا تحل عراه الوثيقة المشار إليها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ونكون حرباً لمن حاربه، وسلماً لمن سالمه، ومبغضين لمبغضيه، ومحبين لمحبيه؛ ومن أشار بإشاره، أو شن على أحد من رعاياه غاره، رادفنا إسعافه وضاعفنا استظهاره، وأخلصنا القول والعمل في مصافاة المقام الشريف: لأن الصلح بحمد الله قد تم وكمل، فيكون ذلك في شريف علمه.
وأما ما أشار إليه من أمر القرى التي قصد تسليمها لنوابه، وأنها داخلةٌ في حدود مملكته: كأبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الروم، والبيرة، فقد علمنا ذلك. ونحن نبدي إلى علومه الشريفة أن هذه البلاد لا يحصل لنا منها خراج، ولا ينال ملكنا ونوابنا منها في كل وقتٍ إلا الانزعاج؛ وإذا جهزنا إليها أحداً من النواب، نتكفل له غالباً بالخيل والرجل والركاب؛ وبضواحيها من سراق التركمان، وقطاع الطريق من العربان، ما لا يخفى عن مقامه. ولو كانت دمشق أو حلب، أو أكبر من ذلك مماله عن الطلب؛ ما توقفنا فيها عن قبول إشارته لتأكيد المحبة، واتحاد الكلمتين من الجانبين في أعلى رتبة؛ غير أن لتسليمها من الوهن لمملكتنا منافاةً لما تفضل به المقام الشريف من سؤال الله تعالى في زيادة سلطتنا. خصوصاً وقد وعد المقام الشريف الوالدي بما سنرى، وسوف تظهر نتيجته مما يتفضل به بين الورى؛ وأن الذي سمح لنا به من الاستظهار ما ناله أحدٌ من الناس، وما حصل لنا بما أبداه الخواجا مسعود بين أمراء دولتنا من المشافهة عن مقامه الشريف من قوة الجأش والإيناس؛ ونحن نترقب بيمن حركاته، وسديد إشارته، في زيادة النفس والملك والمال، ونتوقع من جميل كفالته السعادة الأبدية في الحال والمآل؛ فيكون ذلك في شريف علمه.
وقد جهزنا بهذه المفاوضة المجلس العالي، الأميري، الكبيري، الأعزي، الأخصي، المقربي، المؤتمني، الأوحدي، النصيري، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء الخواص في العالمين، منتخب الملوك والسلاطين، منكلي بغا الناصري أمير حاجب، أدام الله تعالى سعده، وأنجح قصده؛ وعلى يده من الهدية المصرية ما تهيأ تجهيزه بمقتضى القائمة الملصقة بذيلها، وأعدنا المجلس العالي النظامي: مسعوداً ومن معه إلى المقام الشريف، متحملين من رسائل الأشواق والاتحاد، ما لا يقع عليه الحصر والتعداد؛ وما أخرنا الخواجا نظام الدين مسعوداً هذه المدة بالباب الشريف إلا لأمر عرض من قضية السلطان أحمد بن أويس، وهربه من بغداد إلى حلب، وجهزنا من الباب الشريف من يحضره إلى دمشق ليحصل منه الأرب؛ ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر من كافل الشام المحروس، بوصول قرا يوسف بن قرا محمد إلى دمشق في نفر قليل. فجهزنا أحد الأمراء إلى كافل الشام بمثالٍ شريف، يتضمن القبض على السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف المذكورين، وإيداعهما الاعتقال بقلعة دمشق المحروسة، وفاءً للعهد وتأكيداً. وحملنا الأمير سيف الدين منكلي بغا المذكور، مشافهةً في معناهما. والقصد من جميل محبته، وجزيل أبوته، قبول المجهز من ذلك، وبسط العذر فيه إذا وصل إلى حضرته هنالك: لأن الديار المصرية وأعمالها حل بها من المحل لعدم طلوع النيل في هذه السنة ما لا يحصر ولا يحصى، ولا سمع بمثله. وشمول نسخة الصلح المعادة بالخط الشريف، ومضاعفة إكرام حاملها الأمير منكلي بغا بالبر الوريف؛ والإصغاء إلى ما تحمله من المشافهة في معنى أحمد بن أويس وقرا يوسف، والله تعالى يشيد بتمهيده قواعد الدين الحنيف، يمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الثالث من ملوك توران من بني جنكزخان: القان الكبير صاحب التخت:
وهو صاحب الصين والخطا.
قال في التعريف: وهو أكبر الثلاثة، ووارث تخت جنكزخان. قال: ولم يكن يكاتب لترفعه وإبائه، وطيرانه بسمعة آبائه؛ ثم تواترت الآن الأخبار بأنه قد أسلم ودان دين الإسلام، ورقم كلمة التوحيد على ذوائب الأعلام. قال: وإن صح ذلك- وهو المؤمل- فقد ملأت الأمة المحمدية الخانقين، وعمت المشرق والمغرب، وامتدت بين ضفتي المحيط. ثم قال: فإن صح إسلامه وقدرت المكاتبة إليه، تكون المكاتبة إليه كالمكاتبة إلى صاحب إيران ومن في معناه من سائر القانات المقدم ذكرهم، أو أجل من ذلك.
قلت: ولم يتعرض إلى المكاتبة إليه على تقدير بقائه على الكفر، ويشبه أن تكون المكاتبة إليه على ذلك وشدة سطوته، فيعطى من قطع الورق بقدر رتبته. ثم يجوز أن تبتدأ المكاتبة إليه كصاحب القسطنطينية ومن في معناه، مع مراعاة معتقده في ديانته بالنسبة إلى كما يرعى مثل ذلك في المكاتبة إلى ملوك النصرانية، والوقوف في الخطاب وما ينخرط في سلكه عند الحد اللائق به. والأمر في ذلك موكول إلى اجتهاد الكاتب ونظره.